المتابعون



تلــقي الخطاب الصوفي – قراءة في لامية الششتري
أ‌.        حمزة حمادة
جامعة الوادي
تمهيد:
يعاني  الخطاب الصوفي منذ قرون أزمة قراءة ، حيث ظلت العلاقة بين المنتج والمتلقى إلى وقت غير بعيد، مبتورة ومريبة لأسباب كثيرة سيتعرض لها هذا المقال في حينه،وظلت تلك الهوة تحول بين الصوفي ومتلقيه بالرّغم من كل الدراسات التي تناولت الخطاب الصوفي،وذهبت بعيدا في تقديم قراءات لنصوصه التي يشتكي القارئ دوما من انغلاقها.
ولعل الخطاب الصوفي كغيره من الخطابات،يشترط قارئا خاصا متسلّحا بأرقى ما توصلت إليه المعرفة مع تيّسر الوقت والخبرة و التسهيلات، التي تجعل من تلقيه عمليّة معقدة متطوّرة ومدروسة،ذات جدوى معرفية.
وقد حاولت تلك البحوث والدّراسات،استجلاء بواطن النص الصّوفي،وفهم خصائصه التعبيريّة والأسلوبية،وقد أسهمت المناهج الحديثة في تدشين عصر جديد للدرس الأدبي و النقدي،فأعطت آليات جديدة ورؤى بوسعها دفع القارئ إلى التوغل في متاهات النصوص الإبداعية و الظواهر الأدبية.
من أبرز النظريات التي ركّزت كل اهتمامها على القارئ،"نظرية القراءة"،فبعدما كان الاهتمام في البدء منصبّا على المرسل(المنتج،المؤلّف،الباث،،)،ومن بعده(الرسالة،النص،العلامة،،)صار الآن يهتم بالمتلقّي.
كان الاهتمام بالمبدع والتركيز عليه في نقدنا القديم،لعدّة اعتبارات،حيث نجد "عبد القاهر الجرجاني"يؤكّد في كتابه (دلائل الإعجاز)« على حضور سلطة المتكلّم و قصديته،لأنّه هو الذي يحدّد معاني كلامه سلفا،ويترتّب عند ذلك أنّ المتلقّي ليس له دور في إضفاء المعنى،ويبقى عليه نأنأ أن يبحث عنها من خلال اللفظ ذاته»[1]،فالجرجاني« يُعطي المتكلّم سلطة كثر من القارئئال أكثر من القارئ لأنّه مصدر الحقيقة،وهذا ينسجم مع النظريّة الإعجازية التي كان من الضروري تطبيقها على القرآن الكريم »[2].وذلك أبرز الاعتبارات.
ظل اهتمام الدّارسين والنقاد ردحا من الزمن «  منصبّا على مفهوم المؤلّف،،وكان يُنظر إليه باعتباره مركز العملية الإبداعيّة و النقديّة و تحوّل موجّه للقراءة و الفهم،،وهكذا التقت المناهج التاريخية و النّفسيّة و الاجتماعيّة و الثقافيّة و الدّراسات البيوغرافيّة حتى تُرسّخ ما يُطلَق عليه سلطة المؤلّف »[3]،وتستمر هذه الوضعيّة،وضعيّة هيمنة المؤلّف،زمنا طويلا،لتُعلن بعد ذلك وفاتُه و« بصورة رسميّة مع مقال "رولان بارت"(موت المؤلّف) التي كتبها عام 1968 أي في بداية تحوّله من البنيوية إلى التفكيك،وإن كان ذلك في حقيقة الأمر إعلانا رسميا للوفاة،بعد أن كان النقد الجديد والنقد الشكلاني عامّة قد تبنيا قضيّة التعامل مع النّص الأدبي،بمعزل عن المؤلّف و قصديته»[4].من هنا بدأ الاهتما بالنص (الرسالة،العلامة) والبحث في إيجاد الآليات التي تمكن من فكّ شفراته بعيدا عن المؤلّف و كل ما يحيط به،ودار نقاش طويل ومعمّق حول الرسالة و المرسل إليه و العلاقة الموجودة بينهما،وما هو دور الرسالة وفائدتها وهي بمعزل عن المتلقي؟ولعل تلك الأسئلة هي جوهر نظريّة التلقي.يرى (مورس بيكهام) « أنّه ليست باستطاعة العلامة أن تقول شيئا إلاّ في وجود شخص يستقبلها،ويستجيب لما تريد قوله،وأنّه في حالة غيبةِ المستقبلِ واستجابته، لا توجد دلالة أو معنى»[5]من هنا وحتى يكون للعلامة قيمة،وتؤدّي دورها،في تبليغ المعن، يجب أن يكون هناك متلقٍ يستجيب لها. « فالعلامة...وحدة مسيّجة سياجها يضبط المعنى،ويمنعه من الارتعاش من الازدواج و الهذيان »[6]وبالتالي يجب رفع هذا السياج وتحطيمه حتى يتمكن النص من الارتعاش والهذيان و الحركة،على اعتبار أن هناك من يرى أن النّص آلة كسولة لأنّ « في عمقه معطى غير تامّ مُعطى ينقُصه الكثير لتضمّنه بياضات، ولاحتوائه على مناطق غير محدّدة تنتظر القارئ المناسب لملئها وتوجيهها وجهة تأويلية،فالنّص كما يقول "إيكو":يريد أن يترك للقارئ المبادرة التأويليّة،فهو في حاجةٍ إلى مساعدة قارئ ما لكي يعمل»[7]فالنص لا يعمل بدون المساعدة التي يقدّمها القارئ من هنا يمكن الحديث عن علاقة حميميّة بين النّص ومتلقّيه،وفي ظل هذا المفهوم« للعلاقة بين النّص والقارئ،والذي وضع نهايةً لفكرة النّص المغلق،التي اشترك في تأكيدها،بطرق و لأسباب مختلفة،الشّكليون الروس و النّقاد الجدد و البنيويّون،أصبح التّفسير عند "ياوس"نتيجةً لعلاقةٍ جدليّة بين الطّرفين ،بين الأسئلة التي يثيرها القارئ،وبين الأجوبة التي يقدّمها النص،و بين الأجوبة التي يقدمها النص،وبين المؤلّف الجديد(وهو القارئ) الذي يوجّه للنّص أسئلة مختلفة،حتى يكتب هو نصا آخر»[8]،فالقارئ يُقدّم لنا نصّا ثانيا جديدا،هو نتاج تلك المساءلة للنّص حتى يقول ما عنده،فيصبح القارئ مؤلفا جديدا للنص.
من هنا يمكن أن نؤكّد من جديد تلك العلاقة الوطيدة بين القارئ و المقرؤ، ولكن حتى يتمكن القارئ من فكّ شِفرات النّص،لا بدّ أن يكون قارئا من نوع خاصّ،لأنّ القراءة عملية معقدة،تحتاج إلى استعداد ومهارات خاصّة،لذلك طُرحت مسألة القراءة في الساحة النقدية انطلاقا من كون« القراءة فنٌّ يتوقّف على موهبة وتجربة وثقافة الفرد المحلل،وهو الإجراء الذي يؤكّد عليه "أمبرتو إيكو" حيث يهتم بالدّرجة الأولى بالصيرورة  الدّلالية للنص،يتعلم القارئ كيف يخاطب النّص وكيف يمتزج به لينزع عنه كسله،ويبدأ في إنتاج الدّلالات المتوازية »[9] ،بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك في عملية القراءة انطلاقا من العلاقة بين القارئ و المقرؤ حيث « تتعقّد وتتداخل إحالاتها ومرجعياتها،فتعني عملية القراءة هاهنا فكّ شيفرة المكتوب أو المنسوخ أو المقرؤ،اللّغوية والجماليّة و الفكريّة بوصفها مسارا تناصّيا و اجتماعيّا،يجمع داخلَه سياقات إنتاج خارجيّة أدبيّة وثقافيّة و أيديولوجيّة،في ترابُطها،وتأثيراتها في ظروف التلقّي و القراءة،حيث يتواشج النّص باعتباره موضوع القراءة ويتفاعل ويتناص مع نصوص القراءة القبليّة كبِنيات خِطابيّة ولُغويّة وجماليّة »[10]،فالقراءة إذا هي وسيلة فك شفرات النّص لفهم رسالته،وأثناء ذلك تتداخل الإحالات والمرجعيات وتتعقّد لطبيعة المقرؤ،اللغويّة والفكريّة والجماليّة،فهي تنعكس على ظروف التلقّي،من هنا يجب أن يتوفّر – كما أشرنا – قارئ من نوع ما،يرى "رولان بارت" أنّ هناك صفة أساسيّة لا بدَّ من توفّرِها في المتلقّي« فالنّص بنيويًّا كان أو غير بنيويٍّ،هو مجموعة شفرات،أو رسالة مشفّرة يقوم القارئ بحل شفراتها أو فكّها،وفكّ شفرات النص، ليس عمليّة يقدرُ عليها القارئ العادي،خاصّة إذا سحَبْنا الحديث عن الشّفْرات،على التناص حيث يصبحُ النّص نسيجا مُركَبا من نصوص أخرى »[11]وفي هذه الوضعيّة،سيكون على القارئ أن يتسلح بكل ما يتيح له الوصول إلى بواطن النص و غوامضه،مستعينا طبعا بالإجراءات و الوسائل التي تمكنه من ذلك،مرتكزا – كما أشرنا – على ثقافته،أن يكون هذا القارئ قادرا « على تخطّي مرحلة القراءة الاستهلاكية ،التي يتوقف بعدها القارئ العادي،لينتقل إلى قراءة استهلاكية أخرى لنصّ آخر.أمّا قارئ التلقي فهو القارئ القادر،ليس فقط على الانتماء إلى جماعة مُفسِّرة تحدّد معايير التفسير،بل القارئ القادر أيضا على تحقيق درجة من موضوعيّة القراءة،تُبطلُ فعل الذّاتيّة المتوقّعة والغريزية »[12]
            بعدما امتلك القارئ سلطة القراءة،فأصبح هو الذي يقرأ النّص ويعيد بناءهُ،بل يُعيد كتَابته،يكون قد« أعطى القارئَ الجديد نفسَه السّلطة الأولى في تحديد معنى النّص،بعد أن كانت الفلسفة الظاهراتية و التأويليّة من ناحيّة، وعلم النّفس الفرويدي من ناحيةٍ ثانية،قدْ وفّرا له الشّرعيّة الثابة المطلوبة»[13]


الحواشي:



[1]) شرشار عبد القادر، نظريّة القراءة وتلقي النص الأدبي ، مجلة الموقف الأدبي،اتحاد الكتاب العرب،عدد367/2001ص01.
[2]) نفسه:ص01.
[3]) السّـابق:ص02.
[4]) عبد العزيز حمودة،الخروج من التيه دراسة في سلطة النص، عالم المعرفة،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/الكويت، ص110.
[5]) نفسه : ص111.
6) محمد خير البقاعي ،دراسات في النص والتناصّية ،ط1/1998،مركز الإنماء الحضاري،ص26.
[7])  شرشار عبد القادر، نظريّة القراءة وتلقي النص الأدبي ، مجلة الموقف الأدبي،ص2.
[8]) عبد العزيز حمودة،الخروج من التيه دراسة في سلطة النص، عالم المعرفة، ص127.
[9])   شرشار عبد القادر، نظريّة القراءة وتلقي النص الأدبي ، مجلة الموقف الأدبي،ص2.
[10])  نفسـه : ص2.
[11]) عبد العزيز حمودة،الخروج من التيه دراسة في سلطة النص، عالم المعرفة،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/الكويت، ص110.

[12])   السابق :ص140.
[13])  نفسه : ص124. 



الأستاذ حمزة حمادة جامعة الوادي : قسم اللغة العربية